كان المصريون القدماء أول من ابتدع الكتابة والرسم على الجدران، وفي العام الماضي كانت الحوائط المصرية تستعيد سيرة الأجداد، عبر فن "الجرافيتي"، وبدا وكأن هذا الفن جديد علينا، فمع الثورة كان الجدار يوازي منشورًا سريًا يدعو للتظاهرات، ويحرّض الجماهير على المطالبة بحقوقها. ولم يكن التعبير بالجرافيتي مقصورًا على المصريين، ففي سوريا قاموا بِطِلاء حوائط أغلب المدن السورية باللون الأحمر، بما يعني ذلك من رمزية ثورية، وفي السعودية قام مجموعة من الشباب بكتابة عبارات سياسية، ورسومات تحريضية، اقتضت من الحكومة السعودية توقيع غرامات مالية على من يقوم بمثل هذه الممارسات الفنية، تتراوح ما بين 2000 إلى 5000 ريال سعودي.
وفي مصر، أثناء ثورة 25 يناير، كان الفنانون يعبرون عن انخراطهم وتفاعلهم مع الثورة بالرسم على الحوائط، وفي أرضية ميدان التحرير، وتعرَّض بعضهم للاعتقال، حيث تم القبض على الناشط "علي الحلبي"، بتهمة الرسم على سور جمعية الوفاء والأمل، الأمر الذي استدعى تحويله إلى النيابة العسكرية، وإن كان أُطلق سراحه فيما بعد
عقب الثورة، شكل مجموعة من الفنانين حركة "ائتلاف شباب التشكيليين"؛ بغرض التواصل مع البسطاء بشكل مباشر، والنزول إليهم في الشوارع لتقديم الأعمال الفنية لهم، وبدأوا بمنطقة إمبابة في جولة استمرت شهرًا ونصف الشهر، استمعوا خلالها إلى الناس، ونفذوا أفكارهم التي أثمرت نتائج فنية جيدة.
"أشرف رسلان" _أحد أعضاء ائتلاف شباب التشكيليين_ يؤكد أن فن الجرافيتي انتشر في الآونة الأخيرة لأسباب سياسية، فالثورات تُخْرج أفضل ما في الناس، وهو فن احتجاجي بالدرجة الأولى، ويتسم بالحرية المطلقة، ويستخدم كل وسائل التعبير بلا حدود، فمن الممكن أن يحتوي على شتائم، ويتحدى كل ما هو محظور: في الدين، والجنس، والسياسة. لذا يُطلق عليه "الفن الممنوع"، ونجده في ثورات أمريكا اللاتينية، كما ظهر في شرق أوروبا، عندما ثاروا على الشيوعية، وكان الجدار الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية هو المساحة التي عرض عليها الفنانون أفكارهم الاحتجاجية.
يحدد "أشرف رسلان" نوعين من الجرافيتي؛ المرسوم، والمكتوب. وكلاهما يتم تقديمه بطريقة فنية، وكلمات مقصودة، وبتعبير حر. وغالبًا ما يكون توقيع الرسومات لأشخاص مجهولين، أو يخفون أسماءهم الحقيقيّة، ويختارون أسماء تعبيرية؛ خوفًا من الملاحقة، فهذه الأعمال مخالفة للقانون؛ باعتبارها اعتداءً على ممتلكات الأخرين.
ويستشهد "رسلان" بفنانين مشهورين اتجهوا إلى هذا الفن؛ مثل الفنان "محمد جنزير"، ويصفه بـ"صاحب المستوى الراقي" في التنفيذ من الناحية الفنية، وكان الأمن يلاحقه دائمًا، ويلطّخ رسوماته باللون الأسود، لذلك حرص عدد من الفنانين على جمْع كل الرسومات الاحتجاجية، التي نُفذت منذ بداية الثورة إلى الآن؛ لتوثيقها.
وليس بالضرورة أن تتفق كل الآراء حول هذا الفن، فبعض الفنانين التقليديين يصفونه بـ"التخريبي"، وهذا ما يرفضه "رسلان"، مشيرًا إلى أن هؤلاء الفنانين يقدمون فنًا استهلاكيًا، يُراعي متطلبات السوق؛ حتى يبيعوا أعمالهم، فهم لا يمتلكون وجهة نظر فيما يرسمونه
"الجرافيتي" فن حر، وكل الحوائط في الوطن ساحة له. لذا، اندهش الكثيرون من أن ينظّم جاليري "تاون هاوس" معرضًا ضم تسعة فنانين؛ للرسم على حوائط قاعة العرض، بعد أن أقنعت الكاتبة "ثريا مرايف" هؤلاء الفنانين بالاشتراك في هذا المعرض، والتعبير عما يحلو لهم، منهم من أيّد الفكرة، ومنهم من عارضها وعبَّر عن ذلك في القاعة نفسها، وكتب عبارة "هذا ليس جرافيتي يا.".