ثوب أبيض ألقي على شيخ كهل، وفتاة في ريعان شبابها، وطفل مازال في عنفوان براءته، كلهم يصارعون، بكل ما أوتوا من قوة، للخروج من تحت هذا الثوب الأبيض، الذي هو عبارة عن كفن جماعي. وبالفعل تنجح الشخصيات الثلاثة في شقّ الثوب الأبيض؛ وكأنهم بُعِثوا من جديد، بعد أن راحوا ضحية عمليات إرهابية. كان هذا مشهدًا من مسرحية "إكسلوسيف"، للمخرج العراقي حيدر منعثر، الذي شارك أخيرًا في مهرجان المسرح العربي في الرباط.
المسرحية العراقية حبست أنفاس المشاهدين؛ لأنها تناقش موضوعًا أصبح يؤرِّق المواطن العربي، الذي يرى كل يوم شرق حضارته وهو يهوي نحو ظلام دامس، تغذيه نزعات متطرفة، أصبحت تتلاعب بعقول شباب المنطقة، بل تروضها حتى تحولوا إلى آلات للقتل والتخريب، وحلم واحد يراودهم، هو "إقامة الخلافة"، تلك المسرحية إذن لغة الإبداع في مواجهة لغة القتل، لغة الحوار تصارع لغة التكفير، لغة الانفتاح مقابل لغة التعصب، الحوار بين هذه الثنائيات المتباينة شكَّل عمود المسرحية العراقية، التي تحاكم الإرهاب فوق خشبة المسرح.
التطرف الذي يعيش بيننا لا يكاد يمر يوم إلا وتستفيق دولة عربية على خبر هجرة العشرات من شبابها نحو سوريا والعراق؛ للقتال إلى جانب تنظيم "داعش"، تاركين أُسَرًا لا تهتدي إلى جواب عن سبب هجرة أبنائها نحو جحيم "داعش"! ولعل مسرحية "إيكسلوسيف" "Exclusive"، تحاول الإجابة عن هذا السؤال، من خلال تشريح نفسية الشبان المتطرفين، وحالة الفِصام التي يعيشها؛ بين تسليم عقله لخطاب ديني متطرف لا مكان فيه للمنطق، وبين قلوبهم التي تهفو إلى الوصول إلى الخَلاص، أي: الموت الذي يُعتبَر مرحلة لنقله نحو الجنة، وهو ما يُعَدّ منطقًا تبسيطيًّا للدين، ولأفكاره، ولمعنى الموت والحياة.
لهذا نجد المسرحية تقدم هؤلاء الإرهابيين وهم يعيشون تارةً داخل الأحياء، وبين أكواخ الفقراء، وتارة في قصور الأغنياء، يقضون يومهم في مدرجات الجامعة، أو في المساجد، وكأن المخرج العراقي يريد أن ينبه إلى أن المتطرف ليس بالضرورة هو صاحب اللحية الكثة، والزي الأفغاني، بل إن التطرف أصبح يعيش بين ظهرانينا؛ وإن اختلف مظهَره.
وتقدم المسرحية العديد من المشاهد التي تظهر كيف أن التفكير المتطرف أصبح يقتحم بيوت الأسر العربية، بل ويخترق عقول صغارهم قبل كبارهم، وأصبح حاضرًا في الحياة اليومية للمواطن العربي البسيط، وهي محاولة من المخرج العراقي لتنبيه المواطن العربي إلى الخطر المحدق به، ويقدم له وصفة لمواجهة هذا التطرف، الذي أصبح يتربص به في كل نواحي حياته
المسرح لتخليص الإسلام من الإرهاب الدرس الذي قدمته المسرحية العراقية "إيكلوسيف" للمواطن العربي، حول ضرورة اليقظة والحذر، لمواجهة التطرف المحدق به، أكد عليه المسرحي العربي المقيم في ألمانيا، ومدير مسرح البافليون بمدينة هانوفر الألمانية، عبد الفتاح الديوري، حيث اعتبر، في حواره مع DW عربية، أن دوره كمسرحي هو تقديم نموذج حقيقي وإيجابي للحضارة العربية والإسلامية، وإقناع المشاهد العربي، وخصوصًا الشباب، أن دينهم ليس دين إرهاب، بل هو دين تسامح، واعتقد أن خشبة المسرح هي أفضل مكان للقيام بهذا الدور".
ولفت المسرحي الألماني ذو الأصل المغربي، إلى أن الشباب العربي يشعر بأنه مهمش من الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. لذلك يقترح على جميع المسرحيين العرب أن يقدموا لهؤلاء الشباب خشبة المسرح للتعبير عن آرائهم، واكتشاف أنفسهم من جديد، "وأن يرفعوا صوتهم ويعبروا عن آلامهم وضجرهم من الواقع". يقول عبد الفتاح الديوري، قبل أن يفصح عن قناعته بأنه إن لم يتم احتواء الشباب ويعاد دمجه في الشأن العام لبلده، فإنه سيجد البديل في التطرف: "لذلك على الدول أن لا تُشعِر الشاب بأنه غريب في بلده، وأن تمنحه فضاء للتعبير عن نفسه، والمسرح قادر على القيام بهذا الدور".