لا جدال في أن الوطن العربي تعرض منذ زمن بعيد لاستنزاف في طاقاته المادية والاقتصادية والاجتماعية، وهو استنزاف أضعف حركة المجتمع وديناميكيته، وعطّل تطوير العقل وتنمية العلم والإنسان، مما أدى إلى شيوع ثقافة اللامبالاة تجاه ظواهر الحياة. بمعنى أن خسارة المجتمع من جراء الاستنزاف المجتمعي، ما كان يحدث لولا تراجع مؤسسات المجتمع وركودها، وعدم فعاليتها في إدارة الأزمات.
إن هجرة العقول أو الكفاءات ظاهرة تاريخيّة لم ترتبط بمكان أو زمان، إنما هي ردة فعل لافتقاد أصحابها للحرية وبيئة الإبداع، ،فهم يعيشون في بيئة تنبذ العلم في ممارساتها، وتكرس لمفهوم الجمود الفكري والعقلي.
ولم تكن هجرة العقول مرتبطة بالعرب فقط، فهي بدأت عالميًا، ولكن آثارها الاقتصادية والعلمية أعمق بكثير مما في مجتمعاتنا التي تعاني من أميّة وفقر في المعايير العلميّة، وتلوث بيئي في الإبداع والعلم، وهو ما يجعل هجرة العقل من الموطن إلى الموطن الآخَر خسارة لا تعوّض. وتعني انتقال أهم رأسمال اقتصادي للبلد ألا وهو الرأسمال البشري المثقف، المؤثر في تطور الاقتصاد القومي ، وحرمان الدول العربية من الاستفادة من مؤهلات هذه الكفاءات.
وباختصار هناك نموذجين من الهجرة: نموذج تقليدي، وهو الهجرة إلى الخارج. ونموذج معاصر تبنته الشركات الخارجية بإقامة مراكز بحوث داخليًا (الهجرة إلى الداخل)، واستثمار العقول العربية لمصلحتها السياسية والاقتصادية والمالية، دون أن يكون للدول العربية فوائد علمية واقتصادية تخدم مجتمعاتها بمعنى أنها أصبحت صورة لاستغلال القدرات الطبيعية والبشرية.
إن هجرة العقول أضعفت المؤسسات العلمية والأكاديمية ومراكز البحث العلمي، وأصبحت الجامعات العربية تعاني خللاً في نُدرة التخصصات العلمية، وتدهورًا في البحث العلمي، حيث معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد على 0,002 بالمئة سنويًا من الدخل القومي، يقابله تخلّف وعجز تنموي وفشل علمي وتكنولوجي ومشكلات معيشية، وضعف مستوى الأجور والرواتب للباحثين والعلماء.
إن الدول العربية بحاجة إلى وضع قوانين متطورة لجذب العقول المهاجرة، وإيقاف النزيف الاقتصادي الذي تتعرض له، وإيجاد تنسيق قانوني بينها وبين المؤسسات الدولية ذات العلاقة لحماية العقول العربية المهاجرة، وحمايتها من الاستغلال غير الإنساني للشركات الدولية ومن الضروري أن يُسهم الإعلام العربي في تعزيز التوعية العربية بهذه الظاهرة، وبأهمية البحث العلمي في الحياة العربية، ورفع الثقة العربية بقدرات العلماء العرب ودورهم بالنهوض في المسيرة العلمية العربية من خلال تعريف المجتمع العربي بإنجازات هؤلاء العلماء العرب وعطاءاتهم، وتكريمهم في وسائل الإعلام وجعلهم قدوة للأجيال المقبلة.