“الدولة” في الفكر الإسلامي دولة مدنية، وليست دينية، هذا هو الأصل وليس من باب مجاراة العصر، وليس من باب التجديد والتحديث، وليس من باب التحوّل في الخطاب، كما يتوهّم بعض المراقبين.
ومن هنا فإنّ (السلطة الحقيقية) في الفكر الإسلامي، لم تُعطِ لأحد، ولا لعائلة، ولا لشعب ولا لعرق ولا لجنس “السلطة” ، في الفكر الإسلامي أعطيت للأمّة جميعها، وجميع (المكلَّفين) وهم العقلاء من الذكور والإناث شركاء في مفهوم الأمّة، والأمّة هي التي تختار من ينوب عنها وتمنحه الشرعية في ممارسة السلطة، ومفهوم سلطة الأمّة ليس مفهوماً مستورداً من فكرٍ آخر، وليس من باب التقليد لأي أمّة من الأمم قديماً وحديثاً، بل هذا أصل الحكم المعتمد ومحلّ إجماع جميع طوائف المسلمين ومذاهبهم، إلاّ طائفة الشيعة الإثناعشرية والإسماعيلية التي جعلت السلطة “للإمام المعصوم”. بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك ينبغي تصحيح مفهوم الأجيال لمعنى الدولة بطريقة منهجية سليمة، فأمر الدولة والسلطة فيها وتسيير نظام الحكم، يأتي تحت مفهوم السلطة المدنيّة، المخالف لمفهوم الدولة الدينية، ويقصد بالدولة المدنية أنّ الشعب كله المتخصص وغير المتخصص، الفقيه وغير الفقيه، المتعلم وغير المتعلم، جمعيهم يحمل سهماً أو صوتاً متشابهاً من حيث التكليف ومن حيث الأداء في اختيار (رئيس الدولة) الذي تصبح وظيفته بعد اختياره وكيلاً للأمّة ونائباً عنها ومفوضاً منها في إدارة شؤون الدولة، وإدارته للدولة ليست مطلقة ولا مستبدة، بل إدارته يجب أن تكون تحت رقابة الأمّة الصارمة عن طريق ممثليها الذين أطلق عليهم في وقت سابق من باب الاجتهاد (أهل الحل والعقد).
أول من تولّى السلطة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، فقال في أول خطبة سياسية له “ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني…”.
وقال عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين: “من تأمّر عليكم من غير أن تؤمروه فاقتلوه…”، بمعنى أنّه لا يجوز أن يغتصب السلطة أحد بغير إرادة الأمّة. وقال عمر أيضاً:”أيها الناس، إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني، فقال قائل: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا، فقال عمر: الحمد الله الذي أوجد في أمّة محمّد من يقوّم عمر بسيفه”، ويقول عمر أيضاً: “لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها” والمقصود: القول “اتق الله”.
وقبل ذلك وبعده، قول الله عز وجل :{وأمرهم شورى بينهم}، والأمر هنا، الشأن، والمقصود الشأن العام، وأول الشؤون وأهمّها على الإطلاق أمر الحكم وإدارة الدولة.
ودولة الإسلام الأولى التي أقيمت في (يثرب)، سمّاها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: دولة المدينة، وأصبح اسم يثرب (المدينة) لتكون نموذجاً للإنسانية في الحكم المدني المتحضر، الذي يقوم على مفهوم (المواطنة) الحقيقي، فالمواطنة في دولة الإسلام الأولى ليست مقتصرة على المسلمين، أو العرب، بل كان سكان المدينة مزيجاً من العرب وغير العرب، ومن المسلمين وغير المسلمين، ومن المؤكد أنّ الرسول منح المواطنة (لليهود) في أول دولة إسلامية أقيمت على وجه الأرض، من باب إرساء معالم الدولة الحديثة التي تقوم على التعدديّة والعدالة والمساواة أمام القانون، والحريّة والكرامة الآدمية بأسمى معانيها، ونزل النص المحكم {لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغيّ}.
فأصبحت معالم نظرية الحكم السياسي واضحة بقيامها على مجموعة من الأصول القاطعة، الأصل الأول: السلطة للأمّة، والأصل الثاني: الشورى والاختيار، والأصل الثالث: العدالة والمساواة، والأصل الرابع: الحرية والكرامة، والأصل الخامس: المواطنة، والأصل السادس: وحدة الأمة ووحدة الإمامة.