الذين انتشوا ورقصوا فرحًا لما سمّوه "سقوط الإسلام السياسي" بعد الانقلاب العسكري في مصر واهمون، وكان على قارعي الدفوف وحاملي البخور ممن امتلأت بهم وسائل الإعلام المختلفة، ألا يستعجلوا في مراسم الدفن أو الشماتة، لأنهم على ما يبدو لم يتعلموا سنن الله سبحانه في الكون، ولا حركة التاريخ.
إن الاستقراء العام للمشهد السياسي والإستراتيجي، وفهم طبيعة المنطقة وشعوبها، تشير إلى أن "الإسلام السياسي" سيعود من جديد بقوة وعنفوان وشعبية أكبر، وقدرة أعلى على التغيير وقيادة العمل السياسي في المنطقة، ومن أبرز هذه المعطيات:
أولا: أن التيار الذي يتبنى الإسلام فكرًا وسلوكًا ومنهج حياة، هو تيار أصيل عميق وقوي ومتجذر في الأمة العربية والأمة الإسلامية.
وفي التاريخ الحديث والمعاصر، فإن القوة الرئيسة التي واجهت حالة التخلف في أمتنا وواجهت الاستعمار في ديارنا، كان مكونها الرئيس إسلاميًا، وروحها الدافعة إسلامية، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وحركة الشهيد أحمد خان في الهند، وبن باديس في الجزائر، وغيرها، وحركات الإخوان المسلمين أو الجماعة الإسلامية في القارة الهندية، والنورسية في تركيا، وغيرها هي امتداد لهذا التيار الإصلاحي.
ثانيا: منذ كارثة حرب 1967 -التي احتل الصهاينة فيها باقي أرض فلسطين وسيناء والجولان، والتي انكشف فيها بؤس أداء الأنظمة العسكرية، والتيارات اليسارية، والمحافظة، والقومية- والرسم البياني للتيار الإسلامي يشهد حالة من الصعود.
ثالثا: منذ أن ابتليت هذه الأمة بتراجع دورها الحضاري، وبالاستعمار، وبالاحتلال الصهيوني، وبالانقسام والتجزئة، وهي تعاني حالة مخاض، تصطرع فيها التيارات والأيديولوجيات، إنها أمة تبحث عن هوية، عن مسار يعيد لها حيويتها، ونهضتها، ومكانتها المتقدمة بين الأمم.
رابعا: التيار الإسلامي هو أغنى التيارات بالشباب والكفاءات الشبابية، بعكس معظم التيارات اليسارية والليبرالية والقومية، التي تجاوز معظم قياداتها خريف العمر، ولم تتمكن من تجديد نفسها.
خامسا: لقد وجد الإسلاميون أنفسهم في مأزق تصدر المشهد دون القدرة الحقيقية على التغيير. فركوب العسكر لموجة ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وتوليهم محاولة استيعابها وإعادة توجيهها، قطع الطريق على إمكانية استكمال الثورة لعناصرها.
سادسا: قدّم الإسلاميون نموذجًا حضاريًا متميزًا في احترام المسار الديمقراطي، والتداول السلمي للسلطة، واحترام نتائج صناديق الاقتراع، وفازوا في مصر في خمسة استحقاقات انتخابية (الإعلان الدستوري، مجلس النواب، مجلس الشورى، الرئاسة، الدستور) في انتخابات حرة نزيهة وشفافة، وبالتالي عبروا بجدارة عن إرادة الشعب المصري ،و لم يكن في عهد مرسي معتقل سياسي واحد .
سابعا: تبدو خيارات الانقلابيين محدودة وصعبة، فهناك خيار العودة مرة أخرى إلى النظام السابق الفاسد المستبد، وإنْ بلباس جديد، مع محاولة تهميش الإسلاميين أو استئصالهم، وهو خيار سينكشف عاجلًا أم آجلًا، ولن يؤدي إلى شيء سوى التهيئة لثورة شعبية أكثر اتساعًا وقوة، تقتلع النظام السابق ومؤسساته من جذورها وتنشئ نظامًا جديدًا، وهناك خيار الديمقراطية المجتزأة الذي يفصل ثوبها على مقاس الانقلابيين، وربما يسمح بمشاركة شكلية للإسلاميين بعد قصقصة أجنحتهم، وهناك خيار الذهاب إلى تطبيق ديمقراطي كامل وإجراء انتخابات حرة شفافة، وهو خيار يفتح الباب واسعا أمام عودة الإسلاميين لسدة الحكم.
ثامنا: إن الإنسان في هذه المنطقة قد كسر حاجز الخوف، ولا تستطيع الأنظمة القمعية والاستبدادية التي تجاوزها التاريخ أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
تاسعا: الإسلاميون ليسوا ملائكة، وهم يخطئون ويصيبون، وهم يتعثرون ويتعلمون. لقد تم إبعاد الإسلاميين عن إدارة الدولة وعن مؤسساتها لعشرات السنين، وعانوا من محاولات التهميش، ولعل التجربة السابقة أثبتت للإسلاميين أنهم يجب:
لقد كان الانقلاب درسًا قاسيًا للإسلاميين، ولكنه كان درسًا لا يقدر بثمن، فقد عرفوا بشكل واضح خريطة الأصدقاء والأعداء، وعرفوا مواطن ضعفهم وقصورهم.
ولذلك، فإن الموجة الارتدادية المضادة التي أطاحت بالإسلاميين في مصر لن تكون بالنسبة لهم سوى "خطوة إلى الوراء، نحو قفزة إلى الأمام".