تهدف هذه الورقة إلى رسم إطار عام للعلاقة بين العولمة والهوية الثقافية كما يمكن أن ترصد اليوم في الوطن العربي، سواء كعلاقة قائمة بالفعل أو كما يمكن أن تقوم في المستقبل. وهي تستعيد بصورة أو بأخرى معطيات سبق تقريرها في أعمال سابقة. وبالتالي فالورقة تقدم أطروحات تؤخذ هنا كحقائق سبق تبريرها في أعمال أخرى. هذه الأطروحات هي:
الأطروحة الأولى : ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات… إننا نقصد بـ "الثقافة" هنا: ذلك المركّب المتجانس من الذكريات والتصوّرات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكّل أمّة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطوّرات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى إنّ الثقافة هي "المُعبّر الأصيل عن الخصوصيّة التاريخيّة لأمّة من الأمم، عن نظرة هذه الأمّة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل"
تلزم عن هذا التعريف، لزومًا ضروريًا، النتيجة التالية، وهي أنّه: ليست هناك ثقافة عالميّة واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنّما وجدت، وتوجد وستوجد، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر
الأطروحة الثانية: الهوية الثقافية مستويات ثلاثة: فردية، وجماعية، ووطنية قومية. والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساسا بنوع "الآخر" الذي تواجهه. إنّ الهوية الثقافية كيان يصير، يتطور، وليست محتوى جاهزا ونهائيا. هي تصير وتتطور، إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم، انتصاراتهم وتطلعاتهم، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما
وعلى العموم، تتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذات مركز واحد: - فالفرد داخل الجماعة الواحدة، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية (حزبا أو نقابة الخ…)، هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة. عبارة عن "أنا"، لها "آخر" داخل الجماعة نفسها: "أنا" تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من "الآخر". - والجماعات، داخل الأمة، هي كالأفراد داخل الجماعة، لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة، ولكل منها "أنا" خاصة بها و"آخر" من خلاله وعبره تتعرف على نفسها . - والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة اتجاه الأمم الأخرى. غير أنها أكثر تجريدا، وأوسع نطاقا، وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف. هناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية، لشعب من الشعوب: الهوية الفردية، والهوية الجماعية، والهوية الوطنية (أو القومية). والعلاقة بين هذه المستويات ليست ثابتة، بل هي في مد وجزر دائمين،تتغير العلاقة بحسب الظروف وأنواع الصراع واللاصراع، والتضامن واللاتضامن، التي تحركها المصالح: المصالح الفردية والمصالح الجماعية والمصالح الوطنية والقومية.
الأطروحة الثالثة: لا تكتمل الهوية الثقافية إلا إذا كانت مرجعيتها: الوطن والأمة والدولة. لا تكتمل الهوية الثقافية، ولا تبرز خصوصيتها الحضارية، ولا تغدو هوية ممتلئة قادرة على نشدان العالمية، على الأخذ والعطاء، إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن والأمة والدولة. الوطن: بوصفه "الأرض"، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا، في قلب كل مواطن. الأمة: بوصفها النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة: وهي الذاكرة التاريخية والطموحات التي تعبّر عنها الإرادة الجماعية التي يصنعها حب الوطن، أعني الوفاء لـ "الأرض "، للتاريخ الذي ينجب، والأرض التي تستقبل وتحتضن. الدولة: بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة، والجهاز الساهر على سلامتهما ووحدتهما وحماية مصالحهما، وتمثيلهما اتجاه الدول الأخرى، في زمن السلم كما في زمن الحرب. ولا بد من التمييز هنا بين "الدولة" ككيان يجسد وحدة الوطن والأمة، من جهة، وبين الحكومة أو النظام السياسي الذي يمارس السلطة ويتحدث باسمها من جهة أخرى. وواضح أننا نقصد هنا المعنى الأول. إذن، فكل مسّ بالوطن أو بالأمة أو بالدولة هو مس بالهوية الثقافية, والعكس صحيح أيضا: كل مسّ بالهوية الثقافية هو في نفس الوقت مسّ بالوطن والأمة وتجسيدهما التاريخي: الدولة.