مما لاشك فيه أن لكل أمة مرتكزات ثقافية تميزها وتعتز بها، وتعمل على المحافظة عليها لأنها تمثل كينونتها ومصدر فخارها وانتمائها. ومن يفتقد ذلك العمق الثقافي يسعى لصنعه وإيجاده حتى ولو جاء ذلك من تحريف أو تطوير لأساليب وثقافات قائمة أو سرقتها إن صح التعبير. نقول ذلك لأن الهوية العربية والثقافة العربية تتعرضان لحرب شرسة صريحة ومبطنة هدفها إلغاء الانتماء، وإضاعة الهوية وهذا يتم على عدة محاور منها الإعلامي ومنها الاستهلاكي ومنها الإعلاني، ومنها استخدام صريح للأسماء والمصطلحات الأجنبية على اختلافها بالإضافة إلى استخدامها في التحدّث وتسرّبها إلى أسماء المحلات والمراكز التجارية والمعاملات وغيرها.
إنّ تنمية الثقافة عبارة عن جهد وعمل مستمر ، الغرض منه نشر الوعي والاستنارة بإتقان من أجل إحداث تغيير ثقافي ايجابي يتمثل في إحداث تغيير في أسلوب التفكير بحيث يصبح الإنسان أوسع أفقاً وأكثر قدرة على التمييز بين الجيد وغير الجيد، وأكثر تفهماً لآراء الآخرين وسلوكياتهم بالإضافة إلى كسر حاجز العُزلة والتمسك بالعادات القديمة. وهذا يعني أن التمسك بالهوية الثقافية لا يمثل دعوة إلى الانغلاق ولكنه يمثل تحفيزاً على خوض منافسة شريفة تكون نتيجتها التفوق والنجاح. من هذا كله تصبح الدعوة إلى تحصين الهوية الثقافية ودعم مرتكزاتها وترسيخ الانتماء إليها في قلوب الشباب وعقولهم من أهم واجبات المؤسسات الأكثر تأثيراً في توجهات وانتماءات الشباب، والمتمثلة في الإعلام والمدرسة والأسرة.
إن ترسيخ مفهوم الانتماء العربي والإسلامي لا يمثل مفهوماً عرقياً أو عنصرياً بل يمثل هوية ثقافية موحدة، ففي العروبة تلعب اللغة العربية دور المعبر عن الثقافة العربية والحافظ لتراثها وهي ايضاً إطار حضاري مشترك قائم على أطر القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية يثريها التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ومواكبة التطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان أو التفتت .
إن عدم أخذ قوة الثقافة بعين الاعتبار كان من أهم العوامل التي أدت إلى تخلّف دول العالم الثالث عن ركب الحضارة والتقدم المتسارع ولهذا فإن مؤتمر منظمة اليونسكو الذي عقد عام (١٩٩٠) كان من أهم توصياته: الحث على الاهتمام بالبعد الثقافي والاعتراف به وأخذه بعين الاعتبار في اطار عمليات التنمية لأن ذلك يعتبر تأكيداً للهوية الثقافية وتوسيعاً لقاعدة المشاركة في الحياة الثقافية ودعماً للتعاون الثقافي بين الأمم.
فالهوية الثقافية هي الأساس في عملية الانتماء والمواطنة نجد أن من لم يكن له هوية ثقافية محددة يسعى إلى صنع تلك الهوية وإيجادها ولعل خير مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية فهي دولة حديثة فعمرها لا يزيد على (٢٣٤) سنة وشعبها يمثل خليطا من مجموعات مهاجرة من جميع أنحاء العالم ولذلك كان لزاماً على تلك الدولة الحديثة ان توجد هوية ثقافية خاصة بها تجمع ذلك الاختلاف وتوحد الانتماء وتعزز الوحدة. وقد فعلوا ذلك من خلال فعاليات عديدة يأتي في مقدمتها التعليم والإعلام والفن والمال وقبل ذلك وبعده سيادة القانون وممارسة الديموقراطية في ظل الدستور.
نعم لقد كان للانتاج السينمائي من خلال "مؤسسة هولي وود" التي تمثل مركز تصوير وإنتاج للبرامج والمعرفة والسياسة والأفلام الموجهة والتي تركز كثيراً على عنصر التفوق الأمريكي وبالتالي تزرع حب الانتماء والافتخار بالهوية الثقافية الموحدة.
أما المثال الآخر للدول التي لم تكن تملك هوية ثقافية فهو إسرائيل فشعبها جمع من مختلف بقاع العالم ولكل مجموعة منه ثقافة مختلفة عن الأخرى لذلك كان لابد من صنع ثقافة وطنية لكي تنتمي إليها تلك المجموعات البشرية . وقد تم ذلك على مسارين احدهما إحياء ثقافات يهودية مندثرة والآخر سرقة هوية وثقافة المكان وأصحاب المكان الذي تم الاستيلاء عليه بالقوة.
إن التسلح بالعلم والمعرفة كوسيلة وغاية لحماية وتعزيز الهوية الوطنية واستخدام العقل والمنطق من أجل إحداث نهضة ثقافية تجمع ولا تفرق شعارها الانفتاح والحوار والتكامل في الداخل والخارج هو الجوهر في صنع مستقبل أفضل لهذه الأمة، وذلك لأن الشعوب العربية وليس الحكومات هي العمق الاستراتيجي لكل دولة عربية، وهذا يجعل الاهتمام بالهوية الثقافية العربية وحمايتها من الضياع هو الأساس في حماية التضامن العربي ولو على أساس شعبي وهو أمر في غاية الأهمية .