في فلسطين ننفرد بمفهوم الثقافة عن مثيلاتها في مناطق أخرى والعالم بخصائص فرضتها حقائق استثنائية تتمثل في وقوعنا تحت احتلال استيطاني وعسكري. وفي فلسطين أيضا نواجه المشروع الصهيوني عبر التأكيد على هويتنا الثقافية، هذه الهوية تشمل عناصر مختلفة، وتجمع بين أنماط حياة مميزّة وبين الفنون والثقافة التي نتميز بها، كما أنها تتعلق بالتراث والعمارة والتاريخ والأدب والشعر والقصة والرواية والموسيقى والرقص والمسرح والفنون التشكيلية والفلكلور واللغة والسلوك والقيم والأخلاق، والتي تم استخدامها كسلاح واستراتيجية دفاع عن الوجود، ولتعزيز المقاومة ضد كل أشكال الاضطهاد التي تمارس بحقنا كشعب.
لا شك أنَّ الثقافة الفلسطينية لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ ونضال الشعب الفلسطيني في معركته من أجل البقاء، ومن أجل الحصول على حقوقه الوطنية الثابتة، وفي خضم معركة حماية الهوية ودعم فكرة الصمود والمقاومة ولدت ظاهرة "أدب المقاومة" و"ثقافة الصمود". واعتبر ذلك من خصوصيات القضية الفلسطينية حول دور الثقافة في إحياء القضية وما قامت به من تعزيز لآليات حركة المقاومة.
إنّ الثقافة لا تخضع لمجموعة من القوانين والقواعد، والمقصود لا يمكن أن يتم ضبطها بقاعدة وخطوط حمراء، وإنّما هي تعبير حرّ عن أحاسيس ومشاعر وحالات إنسانية ووجدانية وإبداعية، وعلى سبيل المثال وعلى الصعيد الموسيقي، ظهرت مواضيع خاصة وكلمات شعبية منها ما لُحّنَ لانتفاضة الحجارة، ومنها ما لُحّنَ للمقاومة المسلّحة والسلميّة.
وأيضا، هناك حالات إبداعية تناولت "النكبة" عام 1948 وحق اللاجئين في العودة، وأخرى متعلّقة بأحلام قيام الدولة الفلسطينية والوحدة الوطنية، وأخرى ما تحثّ على الصمود في سجون الاحتلال وعدم الاعتراف خلال عملية التحقيق والتعذيب، وغيرها من زغاريد الفخر للشهداء، وأناشيد تناولت المدن الفلسطينية المختلفة "غزة وعكا والقدس"، بالإضافة إلى "الزجل" و"العتابة"، والأغاني التقليديّة مثل "عالروزنة"، "ظريف الطول"، "ميجانة"، "الدلعونة"، "السحجة" و"الزغاريت".
ولو أخذنا جانبا أخر كالقصة مثلا، فقد شكّلت القصة والشعر والرواية الفلسطينية شكلاً من أشكال المقاومة ووسيلة للحثّ على الصمود وعدم التنازل، كما عبّر بها الأدباء والشعراء عن مشاعرهم وارتباطهم بالوطن، والحثّ على النضال ومقاومة المحتلّ، وتعزيز حب الوطن والحبيبة، والمحافظة على الأرض وشجرة الزيتون. واعتبر هذا نوع من التوعية والتعبئة السياسية.
هناك أعمال عديدة ومتميزة لشعراء وأدباء أمثال "محمود درويش" و"سميح القاسم" و"توفيق زياد" و"أميل حبيبي" و"إبراهيم نصرالله" و"معين بسيسو" و"مريد البرغوثي"، وقائمة من اشتهروا بأدب المقاومة في فلسطين طويلة.
إنّ الكيان الصهيوني يسعى لطمس هويتنا ووضع العراقيل أمام نمونا الثقافي، فقد مارس الاحتلال، وما يزال، سياسية منهجية بطيئة عبر 62 عاما من الاحتلال لمحو الهوية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، فمثلا قاموا بخلع الحجارة القديمة من مدننا الفلسطينية كالقدس المحتلة ووضعوا مكانها حجارة جديدة. واستخدموا حجارتنا في متاحفهم وشوارعهم لمحو تاريخنا وكتابة تاريخ جديد لهم، كما قاموا باستخدام تسميات عبرية على الشوارع والمدن والقرى الفلسطينية هادفين بذلك الى محو التاريخ والذاكرة، وسرقوا أغانينا و"دبكتنا" الشعبية ومأكولاتنا الفلسطينية "الفلافل والحمص"، والأزياء الشعبية حتى شاركوا بإحدى المسابقات العالمية "اليوروفيزيون" بملابسنا التراثية، كما أن قائمة التعدّيات والممارسات لمحو الهوية كثيرة، ولها أبعاد سياسية وثقافية تهدف إسرائيل من ورائها إلى تدمير مقومات الهوية وتشويه معالمها الثقافية، ورداً على هذه الممارسات تصدّينا لهم وما زلنا، ولكن لا بد لنا من رسم خطة واستراتيجية ثقافية لتعزيز الصمود والمقاومة والحفاظ على الهوية.
هناك إرث فلسطيني ثقافي غني تم استهدافه من قبل إسرائيل، والحركة الصهيونية، بالمقابل قمنا باستخدامه من أجل الدفاع والمحافظة على ثقافتنا الوطنية وحماية تاريخنا والحث على الصمود والنضال. ولكن يبقى علينا واجب تسخير جهودنا وانجازاتنا وتعزيز حضورنا لنخوض معركتنا أيضا بسلاح الثقافة الوطنية، والقصد هنا هو استخدام الثقافة كحقل داعم معرفي وإنتاجي من أجل خدمة القضية، وعليه تكمن أهم المهام الثقافية أمامنا كفلسطينيين من خلال تعميم ثقافة المقاومة فكراً وممارسة وتوحيد الجهود على امتداد الوطن ، وكذلك مقاومة جميع أشكال التطبيع الثقافي، ما دام الاحتلال على أرضنا.
إنّ مهمتنا تكمن في رسم مشروعنا الحضاري من خلال الثقافة والإبداع، وهي إحدى أساليب الصمود ومقاومة أي شكل من أشكال الطمس أو قتل الروح والهوية.