يحصر الباحثون المعنيون الحضارات الكبرى التي تم التعرف عليها خلال الستة آلاف عام الماضية في ما لا يزيد على خمس عشرة حضارة، والبعض يَحسَبُها أقل من ذلك بكثير، ولكن هناك شبه اتفاق بأن أهم مقومات بزوغ الحضارات وازدهارها يكمن في عنصرين رئيسيين.
العنصر الأول يمثل العقيدة أو الفكر الذي تستند إليه الحضارة أو فلسفتها الإيدلوجية ويميزها عن غيرها من الحضارات. فللحضارة الرومانية فلسفتها الفكرية وللفرعونية فلسفتها وللعربية فلسفتها.. وأعتقد أنَّ هذا ما يجعل تصنيف الحضارات يتجاوز تصنيف الدول رغم قوة بعض الدول العسكرية، فلا يُقال الحضارة السورية أو الدنماركية وإنما الرأسمالية أو الغربية بناء على الفلسفة التي تقوم عليها الحضارة وليس فقط بناء على القوة العسكرية فالدولة تتبع نشوء العقيدة وليس العكس بأن تأتي الدولة ثم تضع عقيدتها التي تختارها.
العنصر الثاني يمثل الطاقة ومفهوم الطاقة هنا شامل يتجاوز المفهوم الضيق للطاقة إلى شمول الطاقة البشرية والإنتاجية فالحضارة الكبرى لا تكتفي بامتلاك العقيدة المميزة لها وإنما تسندها بالسيطرة على أدوات الطاقة أو الإنتاج، فالزراعة طاقة والصناعة طاقة والقوة العسكرية طاقة، والفحم طاقة والبترول أخيراً طاقة عالمية رئيسة. من يسيطر عليها يسيطر على العالم، نقول من يسيطر على أدوات إنتاجها واستهلاكها وتسعيرها وليس مَن يملكها كمخزون، لو تتبعنا الحضارة الرومانية لوجدنا أنها امتلكت العقيدة الفكرية الخاصة بها وامتلكت الطاقة بسيطرتها على الزراعة وسيطرة جيوشها على أغلب مناطق المعمورة.
ولكن الحضارة الرومانية بدأت في الوَهَن لعدة أسباب من أهمها انتشار الأمراض التي فتكت بكثير من مصادرها للطاقة والمتمثلة بشكل رئيسي في طاقتها البشرية التي أدّت الوفيات بها الى تعطل غزواتها وتعطل مصادر الإنتاج الزراعية بها بشكل كبير مَهَّد وسهَّلَ لقيام عقائد فكرية - دينية جديدة قوَّضَتْ العقائد الرومانية وبالتالي الحضارة الرومانية حتى وصل الأمر بالدولة الرومانية أن كلَّفت جيشها للقيام بأعمال الزراعة بسبب الضائقة التي مرت بها نتيجة الوفيات التي سببتها الأمراض المميتة بها، طبعاً الحضارات لا تسقط فجأة ولكنها تتشبث بالبقاء حتى النهاية وتبقى فلولها وعقائدها متداخلة في أحيان كثيرة مع الحضارات التي تليها.