إبراهيم الغرايبة/ بتصرف الحروب تعيد تشكيل العالم، وهي الوسيلة المفضلّة لدى القوى والدول والأنظمة السياسية العالمية والإقليمية والمحلية للتحول إلى مرحلة جديدة، وثقافة جديدة أيضا. وسيبقى الإرهاب على ضآلة قدره ومحدودية الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنه هو الأكثر تأثيرا وجاذبية في الاستثمار السياسي، ولكن هل تصلح إنفلونزا الطيور التي تهدد البشرية بكارثة قد تودي بحياة الملايين لتكوين تحدٍ جديد أمام العالم؟ أم أنها ستبقى مثل الإيدز والمخدرات والتلوث والجريمة المنظّمة وغسل الأموال تحديات تدمّر العالم بصمت وهدوء ويكتفي العالم بالانشغال بوهم الإرهاب؟.
ظهر وباء إنفلونزا الطيور للمرة الأولى عام 1997 في هونغ كونغ، ومنذ ذلك الوقت توفي بضع عشرات من الأشخاص بسبب هذا الفيروس، جاء موت معظمهم بسبب تعاملهم مع طيور مصابة بالعدوى. والخطر يكمن في أن الفيروس قد يتحور كي يصبح قابلا للانتقال بسهولة بين البشر، ومن ثم ينتشر بسرعة ليصيب الملايين.
وفي كتابه "الطاعون القادم" يشير لوري غاريت زميل الصحة العالمية في مجلس العلاقات الدولية إلى أن العلماء يتنبؤون بظهور إنفلونزا قادرة على إصابة 40% من سكان العالم، ويتذكر العالم الإنفلونزا الإسبانية خلال العامين 1918/1919 التي قتلت 50 مليون إنسان، غير أنه من الممكن ألا يحدث شيء من هذا على الإطلاق، فالعلماء لا يستطيعون التنبؤ على وجه التأكيد بما سوف تفعله إنفلونزا الطيور H5N1 .
وقد يكون لاستعادة مجريات أحداث الإنفلونزا الإسبانية دور في فهم المستقبل وتقديره حول إنفلونزا الطيور، فقد تطور المرض بعد انتشاره ليتحول من مرض مزعج إلى قاتل، وانتشر في القواعد العسكرية للجيش الأميركي، وحدثت حالة من الهستيريا في صفوف القوات المسلّحة الأميركية، وجنّد معظم الأطباء للتعامل مع الحالة، ثم امتدّ المرض إلى مناطق نائية معزولة، فأبيد سكان قرى بأكملها من الإسكيمو وأفريقيا وإندونيسيا وجزر المحيط الهادي، وكانت الحرب العالمية الأولى "تدور رحاها"، ولكن الإنفلونزا قتلت من الجنود المتحاربين ومن المواطنين أكثر بأضعاف مضاعفة مما قتلت القنابل والرصاص والغازات السامة والقاتلة.
وفي العام 1976 أصيب أحد الجنود الأميركيين بإنفلونزا الخنازير وتوفي على الفور، وانتشرت على الفور حالة من الهلع لأن مسؤولي الصحة توقعوا أن تنتشر الإنفلونزا على شكل وباء قاتل كما حدث عام 1918، ولكنها تنبؤات لم تقع أدت إلى استقالة مسؤولين كبار في وزارة الصحة الأميركية، وأضعفت من مصداقية الولايات المتحدة في الصحة العامة، ونالت من سمعة الرئيس فورد.
ولكن إذا وقع الوباء بالفعل فإن العالم يبدو غير مستعد لمواجهته، فصناعة الأمصال المضادة للإنفلونزا لا تتجاوز 300 مليون جرعة سنويا، ولذلك فإن إمكانية توزيع عدد من الأمصال يكفي سكان العالم تبدو مستحيلة، ومن المشكوك فيه أن تكون أي من دول العالم الغنية فضلا عن الفقيرة قادرة على توفير احتياجات مواطنيها.
وهناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن المطاعيم، وهي أن المستشفيات غير قادرة على التعامل مع الوباء في حالة وقوعه، فهي غير مؤهلة لاستقبال مرضى جدد، وحتى في مواسم الإنفلونزا العادية تواجه مشكلة في الاستيعاب.
وتحتاج القوات المسلحة في كل دول العالم أن تخفض من تحركاتها وتنقلاتها وأنشطتها، وتفعيل إجراءات الحجر الصحي، والمنظمات العالمية التي تعمل في هذا المجال، مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تعمل بميزانيات منخفضة لا تكاد تكفي لتشغيلها فضلا عن تحمل أعباء جديدة إضافية وكبيرة جدا.
ومشكلة إنفلونزا الطيور تثير أسئلة وتوقعات حول أنواع أخرى من الإنفلونزا كان يظن أنها اختفت مثل H2H2 التي ظهرت عام 1957 وتسببت في مقتل أربعة ملايين شخص ثم اختفت نهائيا عام 1968، ولكن تبين في العام 2001 أنها مازالت موجودة، ومازالت بعض الشركات الخاصة تحوز عينات من هذه الإنفلونزا الخطيرة، ويرصد "ميشيل أوسترهولم" مدير مركز بحوث الأمراض المعدية عشرة أوبئة من الإنفلونزا اجتاحت العالم على مدى 300 سنة، ويقول إنه لا يمكن تجنب حقيقة وجود وباء قادم، ولكن يمكن التخفيف من آثاره فقط.
وإذا تفشى وباء الإنفلونزا فإنه سيغير العالم بين "عشية وضحاها"، فستنخفض التجارة والسياحة والسفر إلى درجة التوقف، وسيتقلص النقل الداخلي بنسبة كبيرة، ويصل الاقتصاد الدولي والإقليمي والوطني إلى حالة توقف، وقد حدث شيء قريب من ذلك عام 2003 عندما انتشر وباء "سارز"، وأصاب على مدى خمسة أشهر حوالي 8000 شخص، مات نحو 10% منهم.
ولكن تجربة العالم مع الإيدز يمكن أن تقدم دروسا مهمة للتعامل مع الوباء وإن كان مثالا غير مطمئن من ناحيتين، الاختلاف في طريقة انتشار المرض، وعدم تعامل العالم حتى الآن بما يكفي ويلزم لمواجهة المرض (الإيدز) الذي مازال تهديدا محتملا للعالم، وهو في أفريقيا كارثة عظمى لا يلتفت إليها أحد، مع أنها تحصد الملايين.
لقد امتد المرض إلى حياة الزعماء السياسيين من النواب والوزراء وقادة الجيش رغم أنه لا يعلن عادة عن سبب وفاتهم أو تنسب إلى أمراض أخرى أقل شأنا، ولكن في زامبيا على سبيل المثال عقدت انتخابات تكميلية 14 مرة خلال 20 سنة لملء مواقع نواب خلت بموتهم أثناء الخدمة.
ويقول "لوري غاريت" إن اتجاه الولايات المتحدة الأميركية ومعها العالم إلى وضع الأمن ومكافحة الإرهاب في مقدمة أولوياتها يضعف مواجهة الخطر الأكبر على الأمن المتمثل بالإيدز والأوبئة، ويضع العالم أمام تحديات غير مسبوقة. وأضاف أنه سيكون من اللازم بعد خسائر هائلة قد لا تعوض أن تضع دول العالم الأوبئة خاصة الإيدز ضمن اهتمامات أمنها القومي الذي سيحدد الكيفية التي ستواجه بها هذه الدول الحزن العميق والدمار السكاني والتهديدات الأمنية التي سيجلبها الوباء.